مركزية الذكاء: كيف تصوغ دول الخليج حوكمة أخلاقية للذكاء الاصطناعي في عصر جديد

تقف دول مجلس التعاون الخليجي – الإمارات العربية المتحدة، السعودية، قطر، البحرين، الكويت، وعُمان – عند لحظة محوريّة، وبينما تراهن المنطقة على الذكاء الاصطناعي لتنويع اقتصاداتها وتحديث خدماتها العامة، يبرز سؤال جوهري: هل يمكن أن تسير الابتكارات جنباً إلى جنب مع الأخلاقيات؟ تستعرض هذه المدوّنة الأطر التنظيميّة المتطوّرة والالتزامات الأخلاقية التي تتبناها دول الخليج في سعيها نحو ذكاء اصطناعي موثوق.
رؤية إقليميّة ترتكز على "التنظيم الناعم"
تكشف تحليلات مقارنة حديثة لاستراتيجيات الذكاء الاصطناعي الوطنية في دول الخليج عن نهج "التنظيم الناعم": استراتيجيات وطنية مفصّلة ومبادئ أخلاقية، ولكن مع وجود عدد محدود من القوانين الملزمة، ورغم أن هذا يسرّع وتيرة الابتكار، إلا أنه يعرّض المشهد لمخاطر مثل التجميل الأخلاقي (ethics-washing) وضعف التنفيذ، ولا يزال التوافق مع أطر مثل قانون الذكاء الاصطناعي الأوروبي (EU AI Act) يمثل تحدّياً مستمرّاً.
لمحة عن الوضع في كل دولة
- الإمارات العربية المتحدة (UAE):
كانت أول من عيّن وزير دولة للذكاء الاصطناعي في 2017، وتسعى لأن تصبح رائدة عالمياً في هذا المجال عبر "استراتيجية الذكاء الاصطناعي الوطنية 2031"، وصندوق أدوات الذكاء الأخلاقي، وميثاق الذكاء الاصطناعي الذي أُطلق في 2024 .
كما تستخدم الإمارات الذكاء الاصطناعي في صياغة وتحديث التشريعات، وهي خطوة غير مسبوقة من المتوقع أن تسرّع عملية التشريع بنسبة تصل إلى 70%. ومع ذلك، يحذّر الخبراء من مخاطر التحيز، وانعدام الشفافية، والحاجة إلى إشراف بشري قوي.
- السعودية:
تستضيف "الهيئة السعودية للبيانات والذكاء الاصطناعي" (SDAIA)، التي أصدرت سبعة مبادئ لأخلاقيات الذكاء الاصطناعي في سبتمبر 2023، وتوجيهات حول الذكاء الاصطناعي التوليدي في أوائل 2024 للقطاعين العام والخاص. كما طُبقت قوانين حماية البيانات الشخصية (PDPL) مع آليات تنفيذ تشمل الغرامات، والاعتماد، وشروط المشتريات.
- عُمان:
نشرت مؤخرًا سياسة وطنية لأمان وأخلاقيات الذكاء الاصطناعي، تطبق على القطاعين العام والخاص. تركّز على القيم الأساسية: كرامة الإنسان، العدالة، الشمول، المسؤولية، مع ضمان التدقيق، والحد من التحيز، وتكافؤ الوصول بما يتماشى مع المبادئ الإسلامية.
- قطر، الكويت، والبحرين:
وضعت قطر إرشادات متخصصة بالذكاء الاصطناعي للبنك المركزي تستهدف الكيانات المالية المرخّصة، بينما أصدرت البحرين والكويت أدلة أو تعهدات أخلاقية، لكن لا تزال الأطر التنظيمية الشاملة قيد التطوير. وتشترك الدول الثلاث في تبني قيم مثل الشفافية، وقابلية التدقيق، والعدالة.
ركائز أخلاقية مشتركة في المنطقة
1- المبادئ الأخلاقية:
الشفافية، العدالة، المساءلة، الإشراف البشري، الأمان، والإنصاف هي عناصر محورية في كافة الأطر الأخلاقية الخليجية، وتتماشى مع توصيات اليونسكو لأخلاقيات الذكاء الاصطناعي، والدليل التوجيهي الخليجي الذي نُشر مؤخراً.
2- حوكمة وفق مستوى المخاطر:
تُصنَّف النماذج حسب المخاطر: تُخضع الأنظمة عالية المخاطر (مثل الصحة، والعدالة، والبُنى التحتية الحيوية) لرقابة مشددة وتدقيق مستمر، بينما تخضع الأنظمة متوسطة ومنخفضة المخاطر لتدابير أخف.
3- الشراء والامتثال:
أصبح التقييم الذاتي للأخلاقيات شرطاً متزايداً للمشاركة في المناقصات العامة، مع اعتماد أطر مثل ISO 42001 لشهادات الاستعداد والامتثال.
التحديات الاستراتيجية والثقافية
- نقص المواهب وتفتّت البيانات:
رغم القوة المالية والبنية التحتية، تعاني دول الخليج من نقص في المواهب المتخصصة بالذكاء الاصطناعي وتفتت في نظم البيانات. ويجري العمل على تنمية المهارات المحلية وبناء منظومات بيانات شاملة، لكن هذا ما زال يمثل عائقًا مهماً.
- المواءمة بين الثقافة والحقوق:
تتطلب أخلاقيات الذكاء الاصطناعي في الخليج توافقًا دقيقًا بين القيم الإسلامية والمعايير الاجتماعية الإقليمية، مع الحفاظ على مبادئ حقوق الإنسان العالمية. ويتطلب ذلك حوكمة مصمّمة خصيصًا تتسم بالحساسية الثقافية.
- غياب الأطر الملزمة:
تبقى معظم وثائق الذكاء الاصطناعي في دول الخليج غير ملزمة، ما يثير تساؤلات حول التنفيذ الفعلي. والتحدي الأكبر هو تحويل هذه الأطر "الناعمة" إلى قوانين قابلة للتنفيذ بمرور الوقت.
ابتكارات ناشئة في الحوكمة
- تنظيم يشمل دورة الحياة كاملة:
اقتُرح نهج "دورة الحياة الحقيقية"، الذي يدمج المعايير القانونية والأخلاقية في كل مرحلة من مراحل تطوير الذكاء الاصطناعي، من البحث إلى ما بعد النشر؛ بهدف تعزيز المساءلة (أُنشئ أصلاً في قطاع الصحة).
- التوافق العالمي والمعاهدات:
تتعاون حكومات الخليج مع منظمات عالمية مثل اليونسكو ومجلس أوروبا، وتُشجَّع على التوافق مع "الاتفاقية الإطارية بشأن الذكاء الاصطناعي" التي أُقرت في سبتمبر 2024، وتغطي الشفافية، وتقييم الأثر، والضمانات القضائية.
- الخبرة المحلية والتعاون الدولي:
تساهم خبيرات مثل السعودية لطيفة عبدالكريم في عمليات استشارية لـ G20، واليونسكو، ومنظمة التعاون الاقتصادي، لربط الرؤى المحلية بالنقاشات العالمية حول الحوكمة.
لماذا يهم هذا الأمر؟ الفرص والمخاطر
قد تضيف مبادرات الذكاء الاصطناعي في المنطقة ما يصل إلى 150 مليار دولار في الناتج المحلي الإجمالي السنوي بحلول نهاية العقد، ولكن فقط إذا واكب بناء الثقة العامة والنزاهة التنظيمية وتطوير القدرات هذا الطموح.
ويؤكد قادة مثل وزير الذكاء الاصطناعي الإماراتي أن حوكمة الذكاء الاصطناعي يجب أن تتحلى بالمرونة كالتقنية نفسها، بقواعد بسيطة تركز على الإنسان وتمنع الأذى دون إعاقة الابتكار.
من الطموح إلى الأخلاق الأصيلة
تسابق دول الخليج الزمن لتصبح قوة عظمى في الذكاء الاصطناعي، لكن التحدي الحقيقي لا يكمن في البنية التحتية أو رأس المال، بل في بناء أنظمة تحظى بالثقة وتحترم القيم الإنسانية. وبينما تبتكر المنطقة نماذج جديدة، كتشريع القوانين باستخدام الذكاء الاصطناعي، وأطر الأخلاقيات الشاملة، والتقارب مع السياسات الدولية، فإن الفصل التالي من القصة يعتمد على تحويل الاستراتيجيات اللامعة إلى معايير قابلة للتنفيذ وخاضعة للمساءلة.
ولتحقيق النجاح الحقيقي، يجب أن تنسج دول الخليج الحوكمة داخل كل مرحلة من مراحل تطوير الذكاء الاصطناعي، من التصميم إلى التطبيق إلى الرقابة؛ فقط عندها يمكنها الإفلات من فخ "التسويق الأخلاقي" وبناء إرث من الابتكار المسؤول، المتوافق مع الثقافة، والمُعترف به عالمياً، فمستقبل الذكاء الاصطناعي في الخليج لن يُكتب بواسطة الخوارزميات فقط، بل بقوّة بنيته الأخلاقية.